سورة الكهف - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


ولمَّا ذكر الحق جلّ جلاله قصة أهل الكهف، وكان وقع فيها عتاب للرسول- عليه الصلاة والسلام- حيث لم يستثن بتأخير الوحي، وبقوله: {ولا تقولن لشيء...} إلخ، ذكر هنا قصة موسى مع الخضر- عليهما السلام- وكان سَبَبُها عتابَ الحق لموسى عليه السلام؛ حيث لم يردَّ العلم إليه، حين قال له القائل: هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ فقال: لا، فذكر الحق تعالى قصتهما؛ تسليةً لنبينا عليه الصلاة والسلام بمشاركة العتاب.
قلت: {لا أبرح}: ناقصة، وخبرها: محذوف: اعتمادًا على قرينة الحال؛ إذ كان ذلك عن التوجه إلى السفر، أي: لا أبرح أسير في سفري هذا، ويجوز أن تكون تامة، من زال يزول، أي: لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ... إلخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر {إذ قال موسى لفتاه} يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف عليه السلام، وكان ابن أخته، سُمي فتاه؛ إذ كان يخدمه ويتبعه ويتعلم منه العلم. والفتى في لغة العرب: الشاب، ولمَّا كانت الخدمة أكثر ما تكون من الفتيان، قيل للخادم: فتى، ويقال للتلميذ: فتى، وإن كان شيخًا، إذا كان في خدمة شيخه، فقال موسى عليه السلام: {لا أبرحُ}: لا أزال أسير في طلب هذا الرجل، يعني: الخضر عليه السلام، {حتى أبلغَ مَجْمَعَ البحرين}، وهو ملتقى بحر فارس والروم مما يلي المشرق، وهذا مذهب الأكثر. وقال ابن جزي: مجمع البحرين: عند طنجة؛ حيث يتجمع البحر المحيط والبحر الخارج منه، وهو بحر الأندلس. قلت: وهو قول كعب بن محمد القرضي. {أو أَمْضِيَ حُقُبًا} أي: زمنًا طويلاً أتيقن معه فوات الطلب. والحقب: الدهر، أو ثمانون سنة، أو سبعون.
وسب هذا السفر: أن موسى عليه السلام لما ظهر على مصر، بعد هلاك القبط، أمره الله تعالى أن يُذّكر قومه هذه النعمة، فقام فيهم خطيبًا بخطبة بليغة، رقَّت بها القلوب، وذرفت منها العيون، فقالوا له: من أعلم الناس؟ فقال: أنا. وفي رواية: هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ فقال: لا. فعَتَب الله عليه؛ إذ لم يَرُدَّ العلم إليه عزّ وجلّ، فأوحى الله إليه: «أعلم منك عبدٌ لي بمجمع البحرين، وهو الخضر»، وكان قبل موسى عليه السلام، وكان في مُقَدَّمَةِ ذي القرنين، فبقي إلى زمن موسى عليه السلام، وسيأتي ذكر التعريف به في محله، إن شاء الله.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: إن موسى عليه السلام سأل ربه: أيُّ عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني، قال: فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال: فأي عبادك أعلم؟ قال: الذي يستقي علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمةً تدله على هدى، أو ترده عن ردى، قال: يا رب إن كان في عبادك من هو أعلم مني فدلني عليه؟ قال: أعلم منك الخضر، قال: أين أطلبه؟ قال: على ساحل البحر عند الصخرة.
قال: يا رب، كيف لي به؟ قال: خُذ حُوتًا في مِكْتَلٍ، فحيثما فقدتَه فهو هناك، فأخذ حُوتًا مشويًا، فجعله في مِكْتَلٍ، فقال لفتاه: إذا فقدتَّ الحوت فأخبرني، وذهبا يمشيان إلى أن اتصلا بالخضر، على ما يأتي تمامه، إن شاء الله تعالى. وحديث الخطبة هو الذي في صحيح البخاري وغيره. والله تعالى أعلم أيُّ ذلك كان.
الإشارة: قصة سيدنا موسى مع الخضر- عليهما السلام- هي السبب في ظهور التمييز بين أهل الظاهر وأهل الباطن، فأهل الظاهر قائمون بإصلاح الظواهر، وأهل الباطن قائمون بتحقيق البواطن. أهل الظاهر مغترفون من بحر الشرائع، وأهل الباطن مغترفون من بحر الحقائق. قيل: هو المراد بمجمع البحرين، حيث اجتمع سيدنا موسى، الذي هو بحر الشرائع، والخضر عليه السلام، الذي هو بحر الحقائق، ولا يُفهم أن سيدنا موسى عليه السلام خال من بحر الحقائق، بل كان جامعًا كاملاً، وإنما أراد الحق تعالى أن يُنزله إلى كمال الشرف، بالتواضع في طلب زيادة العلم؛ تأديبًا له وتربية، حيث ادعى القوة في نسبته العلم إلى نفسه، وفي الحِكَم: (منعك أن تدعي ما ليس لك مما للمخلوقين، أَفَيُبيح لك أن تدعي وصفه وهو رب العالمين!).
وهذه عادة الله تعالى مع خواصِّ أحبائه، إذا أظهروا شيئًا من القوة، أو خرجوا عن حد العبودية، ولو أنملة، أدبهم بأصغر منهم علمًا وحالاً؛ عناية بهم، وتشريفًا لهم؛ لئلا يقفوا دون ذروة الكمال، كقضية الشاذلي مع المرأة التي قالت له: تَمُنُّ على ربك بجوع ثمانين يومًا، وأنا لي تسعة أشهر ما ذقت شيئًا. وكقضية الجنيد والسَّرِي في جماعة من الصوفية، حيث تكلموا في المحبة، وفاض كل واحد على قدر اتساع بحره فيها، فقامت امرأة بالباب، عليها جُبة صوف، فردت على كل واحد ما قال، حيث أظهروا قوة علمهم، فأدبهم بامرأة.
ويؤخذ من طلب موسى الخضر- عليهما السلام- والسفر إليه: الترغيب في العلم، ولا سيما علم الباطن، فطلبه أمر مؤكد. قال الغزالي رضي الله عنه: هو فرض عين؛ إذ لا يخلو أحد من عيب إو إصرار على ذنب، إلا الأنبياء- عليهم السلام- وقد قال الشاذلي رضي الله عنه: من لم يغلغل في علمنا هذا مات مُصرًا على الكبائر وهو لا يشعر. وبالله التوفيق.


قلت: {بينهما}: ظرف مضاف إليه؛ اتساعًا، أو بمعنى الوصل، و{سَرَبًا}: مفعول ثان لاتخذ، و{إذ أوينا}: متعلق بمحذوف، أي: أخبرني ما دهاني حين أويتُ إلى الصخرة حتى لم أخبرك بأمر الحوت، فإني نسيتُ أن أذكر لك أمره. و{أن أذكره}: بدل من الهاء في {أنسانيه}؛ بدل اشتمال؛ للمبالغة، و{عجبًا}: مفعول ثان لاتخذ، وقيل: إن الكلام قد تم عند قوله: {في البحر}، ثم ابتدأ التعجب فقال: {عجبًا} أي: أَعْجَبُ عَجَبًا، وهو بعيد. قاله ابن جزي. قلت: وهذا البعيد هو الذي ارتكب الهبطي. و{قصصًا}: مصدر، أي: يقصان قصصًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: ثم إن موسى ويوشع- عليهما السلام- حملا حوتًا مشويًا وخُبزًا، وسارا يلتمسان الخضر، {فلما بلغا مَجْمَعَ بينهما}؛ بين البحرين، أو مجمع وصل بعضهما ببعض، وجدا صخرة هناك، وعندها عين الحياة، لا يصيب ذلك الماءُ شيئًا إلا حَيِيَ بإذن الله، وكانا وَصَلاَ إليها ليلاً، فناما، فلما أصاب السمكة رَوْحُ الماء وبردُه اضطرب في المِكْتَلِ، ودخل البحر، وقد كانا أَكَلاَ منه، وكان ذلك بعد استيقاظ يوشع، وقيل: توضأ عليه السلام من تلك العين، فانتضح الماء على الحوت، فحيى ودخل البحر، فاستيقظ موسى، وذهبا، و{نَسِيَا حوتَهما} أي: نسيا تفقد أمره وما يكون منه، أو نسي يوشع أن يعلمه، وموسى عليه السلام أن يأمر فيه بشيء، {فاتخذ} الحوت {سبيله} أي: طريقه {في البحر سَرَبًا}؛ مسلكًا كالطّاق، قيل: أمسك الله جرية الماء على الحوت فجمد، حتى صار كالطاق في الماء؛ معجزة لموسى أو الخضر- عليهما السلام-.
فلما جاوزا مجمع البحرين، الذي جُعل موعدًا للملاقاة، وسارا بقية ليلتهما ويومهما إلى الظهر، وجد موسى عليه السلام حَرَّ الجوع، ف {قال لفتاه آتنا غداءنا} أي: ما نتغدى به، وهو الحوت، كما يُنبئ عنه الجواب، {لقد لَقِينا من سفرنا هذا نصبًا}: تعبًا وإعياء. قيل: لم يَنْصَبْ موسى ولم يَجُعْ قبل ذلك، ويدل عليه الإتيان بالإشارة، وجملة {لقد لقينا}: تعليل للأمر بإيتاء الغذاء، إما باعتبار أن النَّصَب إنما يعتري بسبب الضعف الناشئ عن الجوع، وإمَّا باعتبار ما في أثناء التغذي من استراحة مَّا.
{قال} فتاه عليه السلام: {أرأيت إذ أوينا إِلى الصخرة} أي: التجأنا إليها ونِمنا عندها، {فإني نسيتُ الحوت} أي: أخبرني ما دهاني حتى لم أذكر لك أمر الحوت، فإني نسيتُ أن أذكر لك أمره، ومراده بالاستفهام تعجيب موسى عليه السلام مما اعتراه من النسيان، مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى، {وما أنسانيهُ إِلا الشيطانُ} بوسوسته الشاغلة له عن ذلك، {أن أذكره}، ونسبته للشيطان؛ هضمًا لنفسه، واستعمال الأدب في نسبة النقائص إلى الشيطان، وإن كان الكل من عند الله.
وهذه الحالة، وإن كانت غريبة لا يعهد نسيانها، لكنه قد تعَوَدَّ بمشاهدة أمثالها من الخوارق مع موسى عليه السلام، وأَلِفَهَا قبل اهتمامه بالمحافظة عليها، أو لاستغراقه وانجذاب سره إلى جناب القدس، حتى غاب عن الإخبار بها.
{قلت}: والظاهر أن نسيانه كان أمرًا إلهياً قهريًا بلا سبب، وحكمتُه ما لقي من النصب؛ لتعظُم حلاوة العلم الذي يأخذه عن الخضر عليه السلام، فإن المُساق بعد التعب ألذ من المساق بغير تعب، ولذلك: «حفت الجنة بالمكاره».
ثم قال: {واتخذ} الحوتُ {سبيلَه في البحر عَجَبًا}، فيه حذف، أي فحيى الحوت، واضطرب، ووقع في البحر، واتخذ سبيله فيه سبيلاً عجبًا، أو اتخاذًا عجبًا يُتعجب منه، وهو كون مسلكه كالطاق، {قال} موسى عليه السلام: {ذلك ما كنا نبغ} أي: ذلك الذي ذكرت من أمر الحوت هو الذي كُنا نطلبه؛ لكونه أمارة للفوز بالمرام، {فارتدَّا} أي: رجعا {على} طريقهما الذي جاءا منه، يَقُصَّان. يتبعان {آثارِهما قَصَصًا}، حتى أتيا الصخرة {فوجدا عبدًا من عبادنا}، التنكير؛ للتفخيم والإضافة؛ للتعظيم، وهو الخضر عليه السلام عند الجمهور، واسمه: بَلْيَا بن مَلْكَان يُعْصوا، والخضر لقب له؛ لأنه جلس على فروةٍ بيضاء فاهتزّت تحته خضراء، كما في حديث أبي هريرة- عنه- صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد: سمي خضرًا؛ لأنه كان إذا صلى خضر ما حوله، ثم قال: وهو ابن عابر بن شالِخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وكان أبوه ملكًا. اهـ. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قصة الخضر، فقال: «كان ابن ملك من الملوك، فأراد أبوه أن يستخلفه من بعده، فأبى وهرب، ولحق بجزائر البحر، فلم يقدر عليه» قيل إنه شرب من عين الحياة؛ فمُتع بطول الحياة.
رُوِيَ أن موسى عليه السلام حين انتهى إلى الصخرة رأى الخضر عليه السلام على طنْفَسَةٍ- أي: بساط- على وجه الماء، فسلم عليه. وعنه- عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «انتهى موسى إلى الخضر، وهو نائم مُسَجى عليه ثوب، فسلَّمَ عليه فاستوى جالسًا، وقال: عليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال موسى: من أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟ قال: الذي أدراكَ بي، وذلك عليَّ»
قال تعالى في حق الخضر: {آتيناه رحمةً من عندنا}، هي الوحي والنبوة، كما يُشعر به تنكير الرحمة، وإضافتها إلى جناب الكبرياء، وقيل: هي سر الخصوصية، وهي الولاية. {وعلَّمناه من لَّدُنَّا عِلْمًا} خاصًا، لا يكتنه كُنْهه، ولا يُقدر قدره، وهو علم الغيوب، أو أسرار الحقيقة، أو علم الذات والصفات، علمًا حقيقيًا. فالخضر عليه السلام قيل: إنه نبي؛ بدليل قوله فيما يأتي: {وما فعلته عن أمري}، وقيل: وَلِيٌّ، واخْتلف: هل مات، أو هو حي؟ وجمهور الأولياء: أنه حي، وقد لقيه كثيرٌ من الصلحاء والأولياء، حتى تواتر عنهم حياته.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: إنما صار الحوت دليلاً لسيدنا موسى عليه السلام بعد موته وخروجه عن إلفه، ثم حيى حياة خصوصية لَمَّا أنفق عليه من عين الحياة، كذلك العارف لا يكون دالاً على الله، وإمامًا يقتدى به حتى يموت عن شهود حسه، ويخرق عوائد نفسه، ويفنى عن بشريته، ويبقى بربه، حينئذ تحيا روحه بشهود عظمة ربه، ويصير إمامًا ودليلاً موصلاً إليه، ويَظهر منه خرق العوائد، كما ظهر من الحوت، حيث أمسك عن الماء الجرية فصار كالطَّاق، وذلك اقتدار، وإلى ذلك تشير أحوال الخضر، فكان الحوت مظهرًا لحاله في تلك القصة. قاله في الحاشية بمعناه.
وقال قبل ذلك في قوله: واتخذ سبيله في البحر عَجَبًا: أي اتخذ الحوتُ، وجوِّزَ كونُ فاعلِ {اتخذ}: موسى، أي: اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبًا وخرقَ عادةٍ؛ بأن مشى على الماء في طريق الحوت، حتى وجد الخضر على كبد البحر. ثم قال: وعلى الجملة: فالقضية تشير من جهة الخضر: للاقتدار وإسقاط الأسباب، ومن جهة موسى: لإثبات الأسباب؛ حكمة، وحالة الاقتدار أشرف، وصاحب الحكمة أكمل ونفعه عام، بخلاف الآخر، فإن نفعه خاص. اهـ.
وقوله تعالى: {وعلّمناه من لدُنَّا علمًا}، العلم اللدني: هو الذي يفيض على القلب من غير اكتساب ولا تعلم، قال عليه الصلاة والسلام: «من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللهُ علمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» وذلك بعد تطهير القلب من النقائص والرذائل، وتفرغه من العلائق والشواغل، فإذا كمل تطهير القلب، وانجذب إلى حضرة الرب، فاضت عليه العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، منها ما تفهمها العقول وتدخل تحت دائرة النقول، ومنها ما لا تفهمها العقول ولا تحيط بها النقول، بل تُسلم لأربابها، من غير أن يقتدى بهم في أمرها، ومنها ما تفيض عليهم في جانب علم الغيوب؛ كمواقع القدر وحدوث الكائنات المستقبلة، ومنها ما تفيض عليهم في علوم الشرائع وأسرار الأحكام، ومنها في أسرار الحروف وخواص الأشياء، إلى غير ذلك من علوم الله تعالى. وبالله التوفيق.


قلت: {رُشْدًا}: مفعول ثاني لعلمت، أو: علة لأتبعك، أو: مصدر بإضمار فعله، أو: حال من كاف {أتبعك}، أو: على إسقاط الخافض، أي: من الرشد، وفيه لغتان: ضم الراء وسكون الشين، وفتحهما، وهو: إصابة الخير، و{خُبْرًا}: تمييز محول عن الفاعل، أي: لم يحط به خبرك. و{لا أعصي}: عُطِفَ على: {صابرًا}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: ولما اتصل موسى بالخضر- عليهما السلام- استأذنه في صحبته ليتعلم منه، ملاطفة وأدباً وتواضعاً، وكذلك ينبغي لمن يريد التعلم من المشايخ: أن يتأدب ويتواضع معهم. {قال له موسى هل أتبعك على أن تُعلّمَنِ رُشدًا} أي: مما علمك الله من العلم الذي يدل على الرشد وإصابة الصواب، لعلي أرشد به في ديني. ولا ينافي كونه نبيًا ذا شريعة أن يتعلم من غيره من أسرار العلوم الخفية؛ إذ لا نهاية لعلمه تعالى، وقد قال له تعالى فيما تقدم: أعلم الناس من يبتغي علم غيره إلى علمه. رُوي أنهما لما التقيا جلسا يتحدثان، فجاءت خُطافة أو عصفور فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال الخضر: يا موسى خطر ببالك أنك أعلم أهل الأرض؟ ما علمك وعلمي وعلم الأولين والآخرين في جنب علم الله إلا أقل من الماء الذي حمله هذا العصفور.
ولَمَّا سأله صُحْبَتَهُ {قال} له: {إِنك لن تستطيع معيَ صبرًا}؛ لأنك رسول مكلف بحفظ ظواهر الشرائع، وأنا أطلعني الله تعالى على أمور خفية، لا تتمالك أن تصبر عنها؛ لمخالفة ظاهرها للشريعة. وفي صحيح البخاري: «قال له الخضر: يا موسى، إني على علم من علم الله عَلَّمَنِيهِ، لا تعلمه أنت، وأنتَ على علمٍ من علم الله علَّمكَه الله، لا أعلمه»
ثم علّل عدم صبره بقوله: {وكيف تصبرُ على ما لم تُحط به خُبْرًا}؟ لأني أتولى أموراً خفية لا خُبر لك بها، وصاحب الشريعة لا يُسلم لصاحب الحقيقة العارية من الشريعة، {قال} له موسى عليه السلام: {ستجدني إِن شاء الله صابرًا} معك، غير مُعترض عليك. وتوسيط الاستثناء بين مفعولي الوجدان لكمال الاعتناء بالتيمن، ولئلا يتوهم تعلقه بالصبر، {ولا أعصي لك أمرًا}، هو داخل في الاستثناء، أي: ستجدني إن شاء الله صابرًا وغير عاص.
وقال القشيري: وَعَدَ من نفسه شيئين: الصبر، وألاَّ يعصيه فيما يأمره به. فأما الصبر فَقَرنَه بالمشيئة، حتى وجده صابرًا، فلم يقبضْ على يدي الخضر فيما كان منه من الفعل. والثاني قال: {ولا أعصي لك أمراً}، فأطلق ولم يستثن، فعصى، حيث قال له الخضر: {فلا تسألني عن شيء}، فكان يسأله، فبالاستثناء لم يخالف، وبالإطلاق خالف. اهـ. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: وفيه نظر؛ للحديث الصحيح: «يرحم الله موسى، لو صبر...»
مع أن قوله: {ولا أعصي...} إلخ، غير خارج عن الاستثناء، كما تقدم، وإن احتمل خروجه، والظاهر: أن الاستثناء، كالدعاء، إنما ينفع إذا صادف القدر، وهو هنا لم يصادف، مع أنه هنا عارضه علم الخضر بكونه لم يصبر من قوله: {لن تستطيع معي صبرًا}، وقد أراد الله نفوذ علم الخضر. اهـ.
وقال ابن البنا: أن العهد إنما هو على قدر الاستطاعة، وإن الوفاء بالملتزم إنما يكون فيما لا يخالف الشرع، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ لأن موسى عليه السلام لم يلتزم إلا ذلك. ولمّا رأى ما هو محرم تكلم... فافهم. اهـ.
ثم شرط عليه التسليم لِمَا يرى، فقال: {فإِن اتبعتني فلا تسالني عن شيء} تشاهده من أفعالي، فهمْتَه أم لا، أي: لا تفاتحني بالسؤال عن حكمته، فضلاً عن مناقشته واعتراضه، {حتى أُحْدِثَ لك منه ذكرًا}؛ حتى أبتدي بيانه لك وحكمته، وفيه إيذان بأن ما يصدر منه له حكمة خفية، وعاقبة صالحة. وهذا من أدب المتعلم مع العالم، والتابع مع المتبوع، أنه لا يعترض على شيخه بل يسأل؛ مُسترشدًا بملاطفةٍ وأدب، وهذا في العلم الظاهر. وسيأتي في الإشارة ما يتعلق بعلم الباطن.
الإشارة: قد أخذ الصوفية- رضي الله عنهم- آداب المريد مع الشيخ من قضية الخضر مع موسى- عليهما السلام-؛ فطريقتهم مبنية على السكوت والتسليم، حتى لو قال لشيخه: لِمَ؟ لَمْ يفلح أبدًا، سواء رأى من شيخه منكرًا أو غيره، ولعله اختبار له في صدقه، أو اطلع على باطن الأمر فيه، فأحوالهم خضرية، فالمريد الصادق يُسلم لشيخه في كل ما يرى، ويمتثل أمره في كل شيء، فَهِم وجه الشريعة فيه أم لا، هذا في علم الباطن، وأما علم الظاهر فمبني على البحث والتفتيش، مع ملاطفة وتعظيم.
قال الورتجبي: امتحن الحق تعالى موسى عليه السلام بصحبة الخضر؛ لاستقامة الطريقة ولتقويم السنة في متابعة المشايخ، ويكون أسوة للمريدين والقاصدين في خدمتهم أشياخ الطريقة. اهـ. قال القشيري في قوله: {فلا تسالن عن شيء}: قال: ليس للمريد أن يقول لشيخه: لِمَ، ولا للمتعلم أن يقول لأستاذه، ولا للعامي أن يقول للمفتي فيما يفتي ويحكم: لِمَ. اهـ.
وقال ابن البنا في تفسيره: يُؤخذ من هذه القصة: ترك الاعتراض على أولياء الله إذا ظهر منهم شيء مخالف للظاهر؛ لأنهم فيه على دليل غير ظاهر لغيرهم، اللهم إلا أن يدعوك إلى اتباعه، فلا تتبعه إلا عن دليل، ويُسلم له في حاله، ولا تعترض عليه، ولا يمنعك ذلك من طلب العلم والتعلم منه، وإن كنت لا تعمل بعمله؛ لأنه لا يجب عليك تقليده إلا عن دليل، فلا تعمل مثل عمله، وأنت ترى أنه مخالف لك في ظنك، ولا علم لك بحقيقة باطن الأمر، فلا تقفُ ما ليس لك به علم.
والله الموفق والمرشد. اهـ.
قلت: ما ذكره إنما هو في حق من لم يدخل تحت تربيته، فإنما هو طالب علم أو تبرك، وأما من التزم صحبته على طريق التربية فلا يتأخر عن امتثال ما أمره به، كيفما كان، نعم، إن لم ينبغ التوقف والتأني في الاقتداء به.
وقال في القوت في قوله: {فلا تسألن عن شيء}: الشيء في هذا الموضع وصف مخصوص من وصف الربوبية من العلم، الذي علمه الخضر عليه السلام من لدنه، لا يصلح أن يسأل عنه، من معنى صفات التوحيد ونعوت الوحدانية، لا يوكل إلى العقول، بل يخص به المراد المحمول. اهـ.
قال المحشي الفاسي: وهو- أي: المحمول- ما يرشَقْ فيهم من وصف الحق وقدرته، فيتصرفون، وهم في الحقيقة مُصرِّفُون، وهؤلاء هم أهل القبضة، الذين علَّمهم سِرَّ الحقيقة، فلهم قدرة لنفوذ شعاعها فيهم، فتتكوّن لهم الأشياء، وتنفعل لحملهم سر الحقيقة وظهورها لهم وفيهم، وهم كما قال: مرادون محمولون، فما يجري عليهم: قدر {وما رميت...} الآية. اهـ.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10